فصل: سنة ثمان وعشرين وخمسمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة قبض المسترشد بالله على وزيره شرف الدين علي بن طراد الزينبي، واستوزر أنوشروان بن خالد، بعد أن امتنع، وسأل الإقالة.
وفي هذه السنة قتل أحمد بن حامد بن محمد أبو نصر مستوفي السلطان محمود، الملقب بالعزيز، بقلعة تكريت، وقد تقدم سبب ذلك سنة خمس وعشرين.
وفي المحرم منها قتل محمد بن محمد بن الحسين أبو الحسين بن أبي يعلى بن الفراء الحنبلي، مولده في شعبان سنة إحدى وخمسين وأربعمائة، وسمع الحديث من الخطيب أبي بكر، وابن الحسين بن المهتدي، وغيرهما، وتفقه، قتله أصحابه غيلة، وأخذوا ماله.
وفي جمادى الأولى توفي أحمد بن عبيد الله بن كادش أبو العز العكبري، وكان محدثاً مكثراً.
وتوفي فيها أبو الفضل عبد الله بن المظفر بن رئيس الرؤساء، وكان أديباً، وله شعر حسن، فمنه ما كتبه إلى جلال الدين بن صدقة الوزير:
أمولانا جلال الدين، يا من ** أذكّره بخدمتي القديمة

ألم تك قد عزمت على اصطناعي، ** فماذا صدقة عن تلك العزيمة؟ ثم دخلت:

.سنة سبع وعشرين وخمسمائة:

.ذكر ملك شمس الملوك بانياس:

في هذه السنة، في صفر، ملك شمس الملوك، صاحب دمشق، حصن بانياس من الفرنج.
وسبب ذلك: أن الفرنج استضعفوه وطمعوا فيه، وعزموا على نقض الهدنة التي بينهم، فتعرضوا إلى أموال جماعة من تجار دمشق بمدينة بيروت وأخذوها، فشكا التجار إلى شمس الملوك، فراسل في إعادة ما أخذوه، وكرر القول فيه، فلم يردوا شيئاً، فحملته الأنفة من هذه الحالة، والغيظ، على أن جمع عسكره وتأهب، ولا يعلم أحد أين يريد.
ثم سار، وسبق خبره، أواخر المحرم من هذه السنة، ونزل على بانياس أول صفر، وقاتلها لساعته، وزحف إليها زحفاً متتابعاً، وكانوا غير متأهبين، وليس فيها من المقاتلة من يقوم بها، وقرب من سور المدينة، وترجل بنفسه، وتبعه الناس من الفارس والراجل، ووصلوا إلى السور فنقبوه ودخلوا البلد عنوة، والتجأ من كان من جند الفرنج إلى الحصن وتحصنوا به، فقتل من البلد كثير من الفرنج، وأسر كثير، ونهبت الأموال، وقاتل القلعة قتالاً شديداً ليلاً ونهاراً، فملكها رابع صفر بالأمان، وعاد إلى دمشق فوصلها سادسه.
وأما الفرنج فإنهم لما سمعوا نزوله على بانياس شرعوا يجمعون عسكراً يسيرون به إليه، فأتاهم خبر فتحها، فبطل ما كانوا فيه.

.ذكر حرب بين المسلمين والفرنج:

في هذه السنة، في صفر، سار ملك الفرنج، صاحب البيت المقدس، في خيالته ورجالته إلى أطراف أعمال حلب، فتوجه إليه الأمير أسوار، النائب بحلب، في من عنده من العسكر، وانضاف إليه كثير من التركمان، فاقتتلوا عند قنسرين، فقتل من الطائفتين جماعة كثيرة، وانهزم المسلمون إلى حلب، وتردد ملك الفرنج في أعمال حلب، فعاد أسوار وخرج إليه فيمن معه من العسكر، فوقع على طائفة منهم، فأوقع بهم، وأكثر القتل فيهم والأسر، فعاد من سلم منهزماً إلى بلادهم، وانجبر ذلك المصاب بهذا الظفر، ودخل أسوار حلب، ومعه الأسرى، ورؤوس القتلى، وكان يوماً مشهوداً.
ثم إن طائفة من الفرنج من الرها قصدوا أعمال حلب للغارة عليها، فسمع بهم أسوار، فخرج إليهم هو والأمير حسان البعلبكي، فأوقعوا بهم، وقتلوهم عن آخرهم في بلد الشمال، وأسروا من لم يقتل، ورجعوا إلى حلب سالمين.

.ذكر عود السلطان مسعود إلى السلطنة وانهزام الملك طغرل:

قد تقدم ذكر انهزام السلطان مسعود من عمه السلطان سنجر، وعوده إلى كنجة، وولاية الملك طغرل السلطنة، وأنه تحارب هو والملك داود ابن أخيه محمود، وانهزام داود ودخوله بغداد، فلما بلغ السلطان مسعوداً انهزام داود وقصده بغداد، سار هو إلى بغداد أيضاً، فلما قاربها لقيه داود، وترجل له وخدمه، ودخلا بغداد.
ونزل مسعود بدار السلطنة في صفر من هذه السنة، وخاطب في الخطبة له، فأجيب إلى ذلك، وخطب له ولداود بعده، وخلع عليهما، ودخلا إلى الخليفة فأكرمهما، ووقع الاتفاق على مسير مسعود وداود إلى أذربيجان، وأن يرسل الخليفة معهما عسكراً، فساروا، فلما وصلوا إلى مراغة حمل آقسنقر الأحمديلي مالاً كثيراً، وإقامة عظيمة، وملك مسعود سائر بلاد أذربيجان، وانهزم من بها من الأمراء مثل آقسنقر وغيره من بين يديه، وتحصن منه كثير منهم بمدينة أردبيل، فقصدهم وحصرهم بها، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وانهزم الباقون.
ثم سار بعد ذلك إلى همذان لمحاربة أخيه الملك طغرل، فلما سمع طغرل بقربه برز إلى لقائه، فاقتتلوا إلى الظهر، ثم انهزم طغرل وقصد الري، واستولى السلطان مسعود على همذان في شعبان، ولما استقر مسعود بهمذان قُتل آقسنقر الأحمديلي، قتله الباطنية، فقيل إن السلطان مسعوداً وضع عليه من قتله.
ثم إن طغرل لما بلغ قم عاد إلى أصبهان ودخلها، وأراد التحصن بها، فسار إليه أخوه مسعود ليحاصره بها، فرأى طغرل أن أهل أصبهان لا يطاوعونه على الحصار، فرحل عنهم إلى بلاد فارس، واستولى مسعود على أصبهان، وفرح أهلها به، وسار من أصبهان نحو فاسر يقتص أثر أخيه طغرل، فوصل إلى موضع بقرب البيضاء، فاستأمن إليه أمير من أمراء أخيه معه أربعمائة فارس، فأمنه، فخاف طغرل من عسكره أن ينحازوا إلى أخيه، فانهزم من بين يديه، وقصد الري في رمضان، وقتل وزيره أبو القاسم الأنساباذي في الطريق، في شوال، قتله غلمان الأمير شيركير الذي سعى في قتله، كما تقدم ذكره.
وسار السلطان مسعود يتبعه، فلحقه بموضع يقال له ذكراور، فوقع بينهما المصاف هناك، فلما اشتبكت الحرب انهزم الملك طغرل، فوقع عسكره في أرض قد نضب عنها الماء، وهي وحل، فأسر منهم جماعة من الأمراء منهم: الحاجب تنكر، وابن بغرا، فأطلقهم السلطان مسعود، ولم يقتل في هذا المصاف إلا نفر يسير ورجع السلطان مسعود إلى همذان.

.ذكر حصر المسترشد بالله الموصل:

في هذه السنة حصر المسترشد بالله مدينة الموصل في العشرين من شهر رمضان، وسبب ذلك ما تقدم من قصد الشهيد زنكي بغداد على ما ذكرناه قبل. فلما كان الآن قصد جماعة من الأمراء السلجوقية باب المسترشد بالله وصاروا معه فقوي بهم.
واشتغل السلاطين السلجوقية بالخلف الواقع بينهم، فأرسل الخليفة الشيخ بهاء الدين أبا الفتوح الأسفراييني الواعظ إلى عماد الدين زنكي برسالة فيها خشونة وزادها أبو الفتوح زيادة ثقة بقوة الخليفة وناموس الخلافة، فقبض عليه عماد الدين زنكي وأهانه ولقيه بما يكره، فأرسل المسترشد بالله إلى السلطان مسعود يعرفه الحال الذي جرى من زنكي ويعلمه أنه على قصد الموصل وحصرها، وتمادت الأيام إلى شعبان فسار عن بغداد في النصف منه في ثلاثين ألف مقاتل.
فلما قارب الموصل فارقها أتابك زنكي في بعض عسكره وترك الباقي بها مع نائبه نصير الدين جقر دزدارها والحاكم في دولته وأمرهم بحفظها، ونازلها الخليفة وقاتلها وضيق على من بها، وأما عماد الدين فإنه سار إلى سنجار وكان يركب كل ليلة ويقطع الميرة عن العسكر ومتى ظفر بأحد من العسكر أخذه ونكل به.
وضاقت الأمور بالعسكر أيضاً وتواطأ جماعة من الجصاصين بالموصل على تسليم البلد فسعي بهم فأخذوا وصلبوا.
وبقي الحصار على الموصل نحو ثلاثة أشهر ولم يظفر منها بشيء ولا بلغه عمن بها وهن ولا قلة ميرة وقوت، فرحل عنها عائداً إلى بغداد، فقيل إن نظر الخادم وصل إليه من عسكر السلطان وأبلغه عن السلطان مسعود ما أوجب مسيره وعوده إلى بغداد، وقيل بل بلغه أن السلطان مسعوداً عزم على قصد العراق فعاد بالجملة وأنه رحل عنها منحدراً في شبارة في دجلة فوصل إلى بغداد يوم عرفة.

.ذكر ملك شمس الملوك مدينة حماة:

وفي هذه السنة أيضاً، في شوال، ملك شمس الملوك إسماعيل بن تاج الملوك صاحب دمشق مدينة حماة وقلعتها، وهي لأتابك زنكي بن آقسنقر أخذها من تاج الملوك كما ذكرناه. ولما ملك شمس الملوك قلعة بانياس أقام بدمشق إلى شهر رمضان من هذه السنة وسار منها إلى حماة في العشر الأخير منه.
وسبب طمعه أنه بلغه أن المسترشد بالله يريد أن يحصر الموصل فطمع، وكان الوالي بحماة قد سمع الخبر فتحصن واستكثر من الرجال والذخائر، ولم يبق أحد من أصحاب شمس الملوك إلا وأشار عليه بترك قصدها لقوة صاحبها، فلم يسمع منهم، وسار إليها وحصر المدينة وقاتل من بها يوم العيد، وزحف إليها من وقته، فتحصنوا منه وقاتلوه فعاد عنهم ذلك اليوم.
فلما كان الغد بكر إليهم وزحف إلى البلد من جوانبه فملكه قهراً وعنوة، وطلب من به الأمان فأمنهم وحصر القلعة، ولم تكن في الحصانة والعلو على ما هي عليه اليوم، فإن تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين قطع جبلها وعملها هكذا في سنين كثيرة، فلما حصرها عجز الوالي بها عن حفظها فسلمها إليه، فاستولى عليها وعلى ما بها من ذخائر وسلاح وغير ذلك، وسار منها إلى قلعة شيزر وبها صاحبها من بني منقذ فحصرها ونهب بلدها، فراسله صاحبها وصانعه بمال حمله إليه فعاد عنه إلى دمشق فوصل إليها في ذي القعدة من السنة المذكورة.

.ذكر هزيمة صاحب طرابلس الفرنجي:

وفي هذه السنة عبر إلى الشام جمع كثير من التركمان من بلاد الجزيرة، وأغاروا على بلاد طرابلس وغنموا وقتلوا كثيراً، فخرج القمص صاحب طرابلس في جموعه فانزاح التركمان من بين يديه، فتبعهم فعادوا إليه وقاتلوه فهزموه وأكثروا القتل في عسكره، ومضى هو ومن سلم معه إلى قلعة بعرين فتحصنوا فيها وامتنعوا على التركمان، فحصرهم التركمان فيها. فلما طال الحصار عليهم نزل صاحب طرابلس ومعه عشرون فارساً من أعيان أصحابه سراً فنجوا وساروا إلى طرابلس وترك الباقين في بعرين يحفظونها، فلما وصل إلى طرابلس كاتب جميع الفرنج فاجتمع عنده منهم خلق كثير وتوجه بهم نحو التركمان ليرحلهم عن بعرين، فلما سمع التركمان بذلك قصدوهم والتقوهم وقتل بينهم خلق كثير وأشرف الفرنج على الهزيمة، فحملوا نفوسهم ورجعوا على حامية إلى رفنية فتعذر على التركمان اللحاق بهم إلى وسط بلادهم فعادوا عنهم.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة اشترى الإسماعيلية بالشام حصن القدموس من صاحبه ابن عمرون، وصعدوا إليه وقاموا بحرب من يجاورهم من المسلمين والفرنج وكانوا كلهم يكرهون مجاورتهم.
وفيها، في جمادى الآخرة، أغار الأمير أسوار مقدم عسكر زنكي بحلب على ولاية تل باشر فغنم الكثير، فخرج إليه الفرنج في جمع كثير فقاتلوه، فظفر بهم وأكثر القتل فيهم، وكان عدة القتلى نحو ألف قتيل، وعاد سالماً.
وفيها، تاسع ربيع الآخر، وثب على شمس الملوك صاحب دمشق بعض مماليك جده طغدكين، فضربه بسيف فلم يعمل فيه شيئاً، وتكاثر عليه مماليك شمس الملوك فأخذوه وقرر ما الذي حمله على ما فعل فقال: أردت إراحة المسلمين من شرك وظلمك، ولم يزل يضرب حتى أقر على جماعة أنهم وضعوه على ذلك، فقتلهم شمس الملوك من غير تحقيق، وقتل معهم أخاه سونج، فعظم ذلك على الناس ونفروا عنه.
وفيها توفي الشيخ أبو الوفاء الفارسي، وكان له جنازة مشهودة حضرها أعيان بغداد.
وفيها، في رجب، توفي القاضي أبو العباس أحمد بن سلامة بن عبد الله ابن مخلد المعروف بابن الرطبي الفقيه الشافعي قاضي الكرخ، وتفقه على أبي إسحاق وأبي نصر بن الصباغ، وسمع الحديث ورواه، وكان قريباً من الخليفة يؤدب أولاده.
وتوفي أبو الحسين علي بن عبد الله بن نصر المعروف بابن الزاغوني الفقيه الحنبلي الواعظ، وكان ذا فنون، توفي في المحرم.
وتوفي علي بن يعلى بن عوض بن القاسم الهروي العلوي، كان واعظاً، وله بخراسان قبول كثير، وسمع الحديث الكثير، ومحمد بن أحمد بن علي أبو عبد الله العثماني الديباجي، وهو من أولاد محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان. وكان محمد يلقب بالديباج لحسنه، وأصله من مكة، وهو من أهل نابلس، وكان مغالياً في مذهب الأشعري، وكان يعظ. توفي في صفر.
وفيها توفي أبو فليتة أمير مكة، وولي الإمارة بعده ابنه القاسم.
وفيها توفي العزيز بن هبة الله بن علي الشريف العلوي الحسيني فجأة بنيسابور. وكان جده نقيب النقباء بخراسان. وعرض على العزيز هذا نقابة العلويين بنيسابور فامتنع، وعرض عليه وزارة السلطان فامتنع، ولزم الانقطاع والاشتغال بأمر آخرته.
وفيها توفي قاضي قضاة خراسان أبو سعيد محمد بن أحمد بن صاعد، وكان خيراً صالحاً. ثم دخلت:

.سنة ثمان وعشرين وخمسمائة:

.ذكر ملك شمس الملوك شقيف تيرون ونهبه بلد الفرنج:

في هذه السنة، في المحرم، سار شمس الملوك إسماعيل من دمشق إلى شقيف تيرون وهو في الجبل المطل على بيروت وصيدا، وكان بيد الضحاك بن جندل رئيس وادي التيم، قد تغلب عليه وامتنع به، فتحاماه المسلمون والفرنج، يحتمي على كل طائفة بالأخرى، فسار شمس الملوك إليه في هذه السنة، وأخذه منه في المحرم، وعظم أخذه على الفرنج لأن الضحاك كان لا يتعرض لشيء من بلادهم المجاورة له، فخافوا شمس الملوك، فشرعوا في جمع عساكرهم، فلما اجتمعت ساروا إلى بلد حوران، فخربوا أمهات البلد، ونهبوا ما أمكنهم نهبه نهبة عظيمة.
وكان شمس الملوك، لما رآهم يجمعون، جمع هو أيضاً وحشد وحضر عنده جمع كثير من التركمان وغيرهم، فنزل بإزاء الفرنج، وجرت بينهم مناوشة عدة أيام، ثم إن شمس الملوك نهض ببعض عسكره، وجعل الباقي قبالة الفرنج، وهم لا يشعرون، وقصد بلادهم طبرية والناصرة وعكا وما يجاورها من البلاد، فنهب وخرب وأحرق وأهلك أكثر البلاد وسبى النساء والذرية، وامتلأت أيدي من معه من الغنائم، واتصل الخبر بالفرنج، فانزعجوا، ورحلوا في الحال لا يلوي أخ على أخيه وطلبوا بلادهم.
وأما شمس الملوك فإنه عاد إلى عسكره على غير الطريق الذي سلكه الفرنج، فوصل سالماً ووصل الفرنج إلى بلادهم ورأوها خراباً ففت في أعضادهم وتفرقوا، وراسلوا في تجديد الهدنة فتم ذلك في ذي القعدة للسنة.

.ذكر عود الملك طغرل إلى الجبل وانهزام الملك مسعود:

في هذه السنة عاد الملك طغرل بن محمد بن ملكشاه ملك بلاد الجبل جميعها وأجلى عنها أخاه السلطان مسعوداً.
وسبب ذلك أن مسعوداً لما عاد من حرب أخيه بلغه عصيان داود ابن أخيه السلطان محمود بأذربيجان، فسار إليه وحصره بقلعة روئين دز وكان قد تحصن بها واشتغل بحصره، فجمع الملك طغرل العساكر ومال إليه بعض الأمراء الذين مع السلطان مسعود ولم يزل يفتح البلاد، فكثرت عساكره وقصد مسعوداً، فلما قارب قزوين سار مسعود نحوه، فلما تراءى العسكران فارق مسعوداً من أمرائه من كان قد استماله طغرل فبقي في قلة من العسكر، فولى منهزماً أواخر رمضان.
وأرسل المسترشد بالله في القدوم إلى بغداد، فأذن له، وكان نائبه بأصفهان البقش السلاحي، ومعه الملك سلجوقشاه، فلما سمع بانهزام مسعود قصد بغداد أيضاً، فنزل سلجوقشاه بدار السلطان، فأكرمه الخليفة، وأنفذ إليه عشرة آلاف دينار، ثم قصد مسعود بغداد وأكثر أصحابه ركاب جمال لعدم ما يركبونه، ولقي في طريقه شدة، فأرسل إليه الخليفة الدواب والخيام والآلات وغيرها من الأموال والثياب، فدخل الدار السلطانية ببغداد منتصف شوال وأقام طغرل بهمذان.

.ذكر حصر أتابك زنكي آمد والحرب بينه وبين داود وملك زنكي قلعة صور:

في هذه السنة اجتمع أتابك زنكي صاحب الموصل وتمرتاش صاحب ماردين وقصدا مدينة آمد فحصراها، فأرسل صاحبها إلى داود بن سقمان بن أرتق صاحب حصن كيفا يستنجده، فجمع من أمكنه جمعه وسار نحو آمد ليرحلهما عنها، فالتقوا على باب آمد، وتصافوا في جمادى الآخرة، فانهزم داود، وعاد مفلولاً، وقتل جماعة من عسكره.
وأقام زنكي وتمرتاش على آمد محاصرين لها، وقطعا الشجر، وشعثا البلد وعادا عنها من غير بلوغ غرض، فقصد زنكي قلعة الصور من ديار بكر وحصرها وضايقها، فملكها في رجب من هذه السنة، واتصل به ضياء الدين أبو سعيد بن الكفرتوثي فاستوزره زنكي، وكان حسن الطريقة، عظيم الرئاسة والكفاية، محباً للخير وأهله.

.ذكر ملك زنكي قلاع الأكراد الحميدية:

في هذه السنة استولى عماد الدين زنكي على جميع قلاع الأكراد الحميدية منها قلاع العقر وقلعة شوش وغيرهما.
وكان لما ملك الموصل أقر صاحبها الأمير عيسى الحميدي على ولايتها وأعمالها، ولم يعترضه على شيء مما هو بيده، فلما حصر المسترشد بالله الموصل حضر عيسى هذا عنده وجمع الأكراد عنده فأكثر، فلما رحل المسترشد بالله عن الموصل أمر زنكي أن تحصر قلاعهم فحصرت مدة طويلة وقوتلت قتالاً شديداً إلى أن ملكت هذه السنة، فاطمأن إذاً أهل سواد الموصل المجاورون لهؤلاء القوم فإنهم كانوا معهم في ضائقة كبيرة من نهب أموالهم وخراب البلاد.

.ذكر ملك قلاع الهكارية وكواشي:

وحكي عن بعض العلماء من الأكراد ممن له معرفة بأحوالهم أن أتابك زنكي لما ملك قلاع الحميدية وأجلاهم عنها خاف أبو الهيجاء بن عبد الله صاحب قلعة أشب والجزيرة ونوشي، فأرسل إلى أتابك زنكي من استحلفه له وحمل إليه مالاً، وحضر عند زنكي بالموصل فبقي مدة ثم مات فدفن بتل توبة. ولما سار عن أشب إلى الموصل أخرج ولده أحمد بن أبي الهيجاء منها خوفاً أن يتغلب عليها، وأعطاه قلعة نوشى، وأحمد هذا هو والد علي ابن أحمد المعروف بالمشطوب من أكابر أمراء صلاح الدين بن أيوب بالشام.
ولما أخرجه أبوه من أشب استناب بها كردياً يقال له باو الأرجي، فلما مات أبو الهيجاء سار ولده أحمد بن نوشى إلى أشب ليملكها، فمنعه باو، وأراد حفظها لولد صغير لأبي الهيجاء اسمه علي، فسار زنكي بعسكره فنزل على أشب وملكها.
وسبب ملكهم أن أهلها نزلوا كلهم إلى القتال، فتركهم زنكي حتى قاربوه واستجرهم حتى أبعدوا عن القلعة ثم عطف عليهم فانهزموا، فوضع السيف فيهم، فأكثر القتل والأسر، وملك زنكي القلعة في الحال وأحضر جماعة من مقدمي الأكراد فيهم باو فقتلهم وعاد عنها إلى الموصل، ثم سار عنها، ففي غيبته أرسل نصير الدين جقر نائب زنكي وخرب أشب وخلى كهيجة ونوشى وقلعة الجلاب، وهي قلعة العمادية، وأرسل إلى قلعة الشعباني وفرح وكوشر والزعفران وألقى ونيروة، وهي حصون المهرانية، فحصرها فملك الجميع، واستقام أمر الجبل والزوزان، وأمنت الرعايا من الأكراد.
وأما باقي قلاع الهكارية جل صورا، وهرور، والملاسي، ومابرما وبابوخا وباكزا ونيسباس، فإن قراجة صاحب العمادية فتحها من مدة طويلة بعد قتل زنكي، وقراجة هذا كان أميراً قد أقطعه زين الدين علي بلد الهكارية بعد قتل زنكي، ولم أعلم تاريخ فتح هذه القلاع فلهذا ذكرته هاهنا.
وحكى غير هذا بعض فضلاء الأكراد وخالف فيه فقال: إن زنكي لما فتح قلعة أشب وخربها وبنى قلعة العمادية ولم يبق في الهكارية إلا صاحب جل صورا وصاحب هرور، ولم يكن لهما شوكة يخاف منها، عاد إلى الموصل، فخافه أصحاب القلاع الجبلية، فاتفق أن عبد الله بن عيسى بن إبراهيم صاحب الربية وألقى وفرح وغيرها وملكها بعده ولده علي، وكانت والدته خديجة بنت الحسن أخت إبراهيم وعيسى، وهما من الأمراء، مع زنكي، وكانا بالموصل، فأرسلها ولدها علي إلى أخويها وطلبا له الأمان من زنكي وحلفاه له ففعل، ونزل إلى خدمة زنكي وأقره على قلاعه واشتغل زنكي بفتح قلاع الهكارية، وكان الشعباني بيد أمير من المهرانية اسمه الحسن بن عمر، فأخذه منه وقربه منه لكبره وقلة أعماله.
وكان نصير الدين جقر يكره علياً صاحب الربية وغيرها، فحسن لزنكي القبض عليه، فأذن له في ذلك، فقبض عليه ثم ندم زنكي على قبضه فأرسل إلى نصير الدين أن يطلقه فرآه قد مات، قيل إن نصير الدين قتله. ثم أرسل العسكر إلى قلعة الربية فنازلوهاا بغتة، فملكوها في ساعة، وأسروا كل من بها من ولد علي وإخوته وأخواته، وكانت والدة علي خديجة غائبة فلم توجد، فلما سمع زنكي الخبر بفتح الربية سره، وأمر أن تيسر العساكر إلى باقي القلاع التي لعلي، فسارت العساكر، فحصروها، فرأوها منيعة، فراسلهم زنكي ووعدهم الإحسان، فأجابوه إلى التسليم على شرط أن يطلق كل من في السجن منهم، فلم يجبهم إلى ذلك، إلا أن يسلموا أيضاً قلعة كواشى، فمضت خديجة والدة علي إلى صاحب كواشى واسمه خول وهرون وهو من المهرانية، فسألته النزول عن كواشى، فأجابها إلى ذلك، وتسلم زنكي القلاع وأطلق الأسرى، فلم يسمع بمثل هذا، فقال ينزل من مثل كواشى لقول امرأة فإما أن يكون أعظم الناس مروءة لا يرد من دخل بيته، وإما أن يكون أقل الناس عقلاً، واستقامت ولاية الجبال.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة أوقع الدانشمند صاحب ملطية بالفرنج الذين بالشام، فقتل كثيراً منهم وأسر كثيراً، وفيها اصطلح الخليفة وأتابك زنكي، وفيها، في ربيع الأول، عزل شرف الدين أنوشروان بن خالد عن وزارة الخليفة، وفيها توفيت أم المسترشد بالله، وفيها سير المسترشد بالله عسكراً إلى تكريت فحصروا مجاهد الدين بهروز فصانع عنها بمال فعادوا عنه.
وفيها اجتمع جمع من العساكر السنجرية مع الأمير أرغش، وحصروا قلعة كردكوه بخراسان، وهي للإسماعيلية، وضيقوا على أهلها وطال حصرها، وعدمت عندهم الأقوات، فأصاب أهلها تشنج وكزاز، وعجز كثير منهم عن القيام فضلاً عن القتال، فلما ظهرت أمارات الفتح رحل الأمير أرغش فقيل إنهم حملوا إليه مالاً كثيراً وأعلاقاً نفيسة، فرحل عنهم.
وفيها توفي الأمير سليمان بن مهارش العقيلي أمير بني عقيل وولي الإمارة بعده أولاده مع صغر سنهم، وطيف بهم في بغداد رعاية لحق جدهم مهارش، فإنه هو الذي كان الخليفة القائم بأمر الله عنده في الحديثة لما فعل به البساسيري ما ذكرنا.
وفيها، في المحرم، توفي الفقيه أبو علي الحسن بن إبراهيم بن فرهون الشافعي الفارقي، ومولده بميافارقين سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، وتفقه بها على أبي عبد الله الكازروني، فلما توفي الكازروني انحدر إلى بغداد وتفقه على أبي إسحاق الشيرازي وأبي نصر الصباغ، وولي القضاء بواسط، وكان خيراً فاضلاً لا يواري ولا يحابي أحداً في الحكم.
وفيها توفي عبد الله بن محمد بن أحمد بن الحسن أبو محمد بن أبي بكر الفقيه الشافعي، تفقه على أبيه وأفتى وناظر، وكان يعظ ويكثر في كلامه من التجانس، فمن ذلك قوله: أين القدود العالية، والخدود الوردية، ملئت بها والله العالية والوردية، وهما مقبرتان بنهر المعلى، ومن شعره:
الدمع دماً يسيل من أجفاني ** إن عشت مع البكا فما أجفاني

سجني شجني وهمني سماني ** العاذل بالملام قد سماني

والذكر لهم يزيد في أشجاني ** والنوح مع الحمام قد أشجاني

ضاقت ببعاد منيتي أعطاني ** والبين يد الهموم قد أعطاني

وفيها توفي ابن أبي الصلت الشاعر، ومن شعره يذم ثقيلاً:
لي صديق عجبت كيف استطاعت ** هذه الأرض والجبال ثقله

أنا أرعاه مكرماً وبقلبي ** منه ما ينسف الجبال أقله

هو مثل المشيب أكره رؤيا ** ه ولكن أصونه وأجله

وله أيضاً:
ساد صغار الناس في عصرنا ** لا دام من عصر ولا كانا

كالدست مهما هم أن ينقضي ** صار به البيدق فرزانا

وفيها توفي محمد بن علي بن عبد الوهاب أبو رشيد الفقيه الشافعي من أهل طبرستان، وسمع الحديث أيضاً ورواه، وكان زاهداً عابداً أقام بجزيرة في البحر سنين منفرداً يعبد الله، سبحانه وتعالى، وعاد إلى آمل فتوفي فيها وقبره يزار. ثم دخلت: